مقال تحليلي عن كتاب تابوتي أول كيميائية وصانعة عطور في التاريخ
للناقد والكاتب وارد بدر السالم
تابوتي البابلية… أول صانعة عطور في التاريخ
وارد بدر السالم 11 أبريل 2024
(1) بين الألماني باتريك زوسكيند (1949) والبابلية تابوتي- بيلاتيكاليم (1200 ق. م) فضاء زمني بعيد في التاريخ يتصل بالحضارات البشرية القديمة. فالأول يعيد صناعة عطر مستوحى من روائح القرن الثامن عشر الفرنسي، وهي روائح نتنة كما كانت عليه باريس في ذلك الوقت، لكن عن طريق الشم اللامتناهي للصبايا والشابات الصغيرات، لاستخلاص روائحهنّ السرية ومن ثم الإجهاز عليهنّ. حدث ذلك في روايته المعروفة “العطر- قصة قاتل”. أما تابوتي فهي امرأة آشورية- بابلية ابتكرت طريقة كيميائية لصناعة عطر زكي، ملأ القصور السومرية والمعابد والبيوت الأرستقراطية، من دون الحاجة إلى ارتكاب جرائم مهينة، لكن عقل الأنثى- الكيميائي فيها- تفتّح إلى أعلى درجات التقطير للجمال، فكانت ملهمة التاريخ الكيميائية بجدارة، عندما توصلت إلى تركيبات معقدة لاستخلاص العطور من النباتات والزيوت بواسطة التقطير والتذويب والتبخير المعتادة في الوقت الحاضر، كما حصل في عصرها البابلي. فوجّهت ما بعد التاريخ إلى طريقتها المبدعة التي ما تزال عملية معتمدة حتى هذا الزمن.
(2) باتريك زوسكيند ألجأته الفكرة الروائية لاختراع شخصية غرينوي، صانع العطور السرية الذي ارتكب 25 جريمة قتل من أجل أن يُعادِل رائحة النتانة التي كانت عليها باريس في ذلك القرن الملوث (ولد غرينوي في القرن الثامن عشر وسط سوق للسمك ذات الروائح الكريهة) وينتصر على الروائح النتنة التي وُلد فيها سِفاحًا. وتابوتي ألهمتها الزهور وروائحها العطرة وسواها من الزيوت من موجودات الطبيعة أن تبتكر صناعة العطور الملكية لأول مرة في التاريخ القديم. وتتقدم جماليًا كأول صانعة لها، باستخدام المعادلات الكيميائية بما فيها من دوارق وتقطير وتسامٍ وتبخير وتذويب.
(3) عندما لا نجد صلة مباشرة وغير مباشرة بين زوسكيند وتابوتي، سنجد بلا شك الصلة الابداعية المشتركة بين الروائي الحاذق وهو يطوّع الواقع إلى مسلات من الخيال، وبين أنثى العطور التي طوّعت الطبيعة لاستخلاص رائحة ملكية بقيت وصفتها حتى اليوم ماثلة في شركات صناعة العطور؛ هي الابتكار والاختراع والسبق النوعي في تقديم الجمال الفطري من الطبيعة مع اختلاف الوسائل والاجتهادات.
(4) إن كان غرينوي يحلل الروائح التي عاشها منذ طفولته ويجد البدائل عنها في أنفه الشمّام تحت هاجس خيوط نفسية- سرية، قادرة على التحليل وإرجاعها إلى عناصرها الأولية، كمعادل موضوعي للعفونة التي كان عليها منذ صغره، فإن تابوتي لم تعش تجربته الصعبة، بل كانت على قدر وعيها المتقدم في ظروف قديمة، يبدو لنا ظاهرًا بأنها كانت بدائية، لكن واقع الحضارة السومرية بعمومها لم تكن كذلك. إذ كانت فيها العلوم متقدمة شأنها شأن الحضارة المصرية، لذا فتابوتي، المشرفة الملكية النسائية، وهي وريثة تلك الحضارة الرافدينية الكبيرة تتجلى في:
أول امرأة كيميائية وأول صانعة للعطور في بلاد ما بين النهرين، وتاريخيًا تُحسب لها هذه الصناعة.
أول مَن استخدم أجهزة التقطير.
أول من استخدم عملية التشبّع البارد.
أول من استخدم أنواع الزهور والنباتات والزيوت للحصول على مستخلصات العطور.
مسؤولة عطرية في القصر الملكي.
وَصَفت عملية تنقيح المكونات في جهاز تقطير كيميائي لتقطير وتصفية السوائل. لا تزال الإصدارات المتطورة من هذه الأجهزة قيد الاستخدام في المختبرات حتى اليوم.
استخدمت المذيبات لتكوين المنتج العطري النهائي.
لها الفضل في إرساء أسس وتقنيات صناعة العطور في الوقت الحاضر، (أشارت وكالة DHA إلى أن فريقها العلمي عمل على مدى ثلاث سنوات حتى تمكن من إعادة ذلك العطر الذي ابتكرته تابوتي البابلية، مستندًا في عمله على ما كتبته امرأة بابل على لوح طيني باستخلاص العطور من نبات المر، الورد، وغيرها، وبالإضافة إلى صيغة العطر ووصفت بالتفصيل عملية تركيب هذا العطر في لوح سومري تم اكتشافه).
(5) هذه الاستنتاجات التي يأتي عليها كتاب “تابوتي البابلية: أول كيميائية وصانعة عطور في التاريخ”* لم تكن وليدة مصادفة تاريخية، فالعطور القديمة عُرفت في الحضارات الفرعونية واليونانية والرومانية والإغريقية. ومن الثابت أنها ابتدأت ببخور المعابد (كان يستخدم على نطاق واسع في مراسم الجنازة في المجتمع المصري القديم) واستعمالات الطب وسحريات الحضارات الدينية وما إلى ذلك، ولعل العطور كانت (مقدسة للناس وترمز إلى الألوهية) ولم تذكر تاريخيات الحضارات القديمة الفرعونية والرومانية شيئًا عن صناعة العطور فيها، ففي الأغلب الأعم أنها كانت تستورد من حضارات أخرى عبر البحار، وهو شائع في تلك العصور. لكن في العصر البابلي المتناوب تطورت صناعته فنيًا، من خلال ساحرة الرائحة تابوتي التي كانت تستقطر العطر (بجودة استثنائية) مما جعلها مقرّبة من البلاط الملكي.
(6) في أحد السجلات التي عُثر عليها ثمة وصفة لمرهم للملك البابلي من (الماء والزهور والزيت وجذر نبات القصب) إضافة إلى مادة الكالاموس. ولما كانت رائحة بابل:
- “كريهة دائمًا”،
- “تعاني من وضع صحي ضعيف”،
- “المجاري مفتوحة”،
- ” الجميع يفرّغون النفايات في القنوات”،
- “معظم سكانها لم يكونوا متحمسين للاستحمام المتكرر”،
“كان الغرض الملكي من استدعاء تابوتي والاعتراف بقدرتها على بث رائحة طيبة، بدل النتانة الفائضة في المدينة، هو “الحفاظ على جثث الملوك والنبلاء المتوفين لعدة أسابيع حتى تظل الرائحة محتملة حتى نهاية الطقوس الجنائزية الطويلة والمتقنة”، قبل أن يكون عطرًا تزيينيًا لنساء بابل وآشور”
فقد كانت بها حاجة إلى الحل الجذري لطرد الرائحة والقضاء على انتشارها في المجتمع، وكان ذلك العصر الذي كانت فيه تابوتي، بل حتى ما قبله، لذلك اشتغل العقل الصناعي والجمالي فيها فـ “ابتكرت إكسيرًا يسعد كل من يشمّه”، و”كانت روحًا تحكم الزهور، أو أنها حصلت على موهبة أن تنشر على الأرض والهواء من منازل الآلهة السماوية، وتلك الروائح الرائعة التي عالجت الأمراض… مما اضطر الملك نبوخذ نصر إلى إحضارها إلى قصره… أراد معرفة المزيد عن هذه الأثيرات السحرية وكيفية استخدامها لمجد الإله مردوخ”.
(7) تابوتي التي حضرت إلى القصر الملكي؛ مع رفيقتها نينو؛ كانت “ذات مظهر طبيعي. محتشمة الملبس. ذات ثقة عالية بالنفس”. هذه الثقة الاستثنائية فيها، وطريقة عملها في الخلطات العشبية السحرية، باستخدام طرق معقدة ومتقدمة في التحضير العطري (جهاز التقطير مثلًا… وهو أول مرجع تاريخي للعصر الحديث) مكّنها من الحصول على منصب عالٍ في مملكة بابل، وهو المشرفة الملكية النسائية. وهذا المنصب المتقدم جعل منها ساحرة العطور التي لا تباريها صانعة أخرى ، سوى رفيقتها “نينو” التي لم تذكر السجلات الملكية شيئًا عنها، ولم يُكتشف ما يشير إلى جهودها الشخصية في تلك الصناعة، بل ذُكرت كمساعدة لتابوتي.
نعتقد في السياق العام لسيرة رفيقتها الأساسية أنها كانت على دراية بكيفية صناعة العطور من الأزهار والزيوت، وتم ذكرها في السيرة العلمية لتابوتي أكثر من مرة، مما يعني بأن وجودها ليس تكميليًا أو مساعدًا، بقدر ما كان فاعلًا في عمليات متعددة في تلك الصناعة المبتكرة. وربما تتكشف ألواحٌ طينية في المستقبل عن أن نينو كانت ماهرة في تلك التجربة المثيرة للاهتمام والتدوين التاريخي في بابل.
لوح يُظهر كيف ابتكرت تابوتي العطر
(8) كان الغرض الملكي من استدعاء تابوتي والاعتراف بقدرتها على بث رائحة طيبة، بدل النتانة الفائضة في المدينة، هو “الحفاظ على جثث الملوك والنبلاء المتوفين لعدة أسابيع حتى تظل الرائحة محتملة حتى نهاية الطقوس الجنائزية الطويلة والمتقنة” قبل أن يكون عطرًا تزيينيًا لنساء بابل وآشور، وقبل أن ينتشر في المجتمع الرافديني، ولأن تابوتي عاصرت أكثر من ملك بابلي، كانت تتقن الصنعة بشكل فريد، مع مساعدتها نينو. لا سيما إذا ما عرفنا أن بلاد ما بين النهرين القديمة “كان العطر يمثل غرضًا دينيًا معياريًا، وغالبًا ما كان يستخدم في أيقونات الرموز في المحميات على قمة الزقورة”. لذا فإن اللوح الوحيد الذي ترك بصمة هذه الصانعة الاستثنائية حمل سطرًا واحدًا هو (من فمِ صانعة العطور تابوتي بيلاتيكاليم) وكُتب على لوح في العام الخامس من حكم الملك توكولتي نينورتا الأول في أوائل شهر أيار/ مايو من عام 1239 ق. م.
هذا السطر الوحيد هو الشهادة الوحيدة لها، تضاف له ترجمة أخرى عن الشكل المبكر للتقطير الذي عملته تابوتي “مما يجعله واحدًا من أقدم الكتابات الباقية حول عملية كيميائية خارج تحضير الطعام”، والتركيب الذي قرأناه طويل نسبيًا، مخروم من بعض الجوانب، غير أنه يؤكد أن تابوتي كانت تصنع العطر كيميائيًا وهو ما “يتطلب معرفة وثيقة بالكيمياء وفهمًا للعمليات التقنية مثل الاستخراج والتسامي”. ولما بدأت حاسة الشم تستجيب للبخور في الحضارات القديمة كلها، فإن العطر جاء مكملًا لتلك الحاسة مع العطور الذكية التي يعتقد البابليون بأنها ذات صلة مع الإله، وأن الروائح الطيبة “ترضي الإلهة” ففقد يكون هذا مفتاحًا لفهم التعطير بأنه كان ذا طابع ديني أول الأمر فـ”الجثث التي يتم تحضيرها للحياة الآخرة، تحتاج إلى أن تُعامل بمجموعة متنوعة من العطور”.
هوامش:
(*) تابوتي البابلية: أول كيميائية وصانعة عطور في التاريخ، الدكتور قاسم محمد الأسدي- ط1- دار ومكتبة عدنان – بغداد- 2023.
- باتريك زوسكيند: روائي ألماني شهير، صاحب رواية “العطر” التي جلبت له الشهرة الواسعة، والتي ترجمت إلى لغات عالمية كثيرة، وحُولت إلى فيلم سينمائي عام 2006.
- الإله مردوخ: كبير آلهة قدماء البابليين، وسُمّي: المولى الأعظم، مولى السماء والأرض، زُعِم بأن قوته كانت تكمن في حكمته التي كان يستخدمها لمساعدة النَّاس الأخيار على معاقبة النَّاس الأشرار. كانت له عدة صفات خارقة لكن أبرز صفتين كانتا أنه يرى بزاوية 360 درجة وأنه يلقي كلمات سحرية (ويكيبيديا).
- الملك توكولتي نينورتا الأول: أحد الملوك الكبار في الدولة الآشورية الوسطى، حكم في عصر تقاسمت فيه الإمبراطورية الحثية ومصر الفرعونية السيادة على مناطق واسعة من عالم الشرق القديم، وقد سعى ليجعل من الدولة الآشورية واحدة من دول الشرق القديم القوية، فشن عددًا كبيرًا من الحروب، وعلى جهات مختلفة… ووجه عدة حملات غربًا، هدفت إلى توطيد النفوذ الآشوري في منطقة الجزيرة السورية… كانت نهايته القتل في قصره، نتيجة مؤامرة حيكت ضده وشارك فيها بعض أبنائه وتمرد عليه ابنه آشور ناصربال وأعوان مدينة آشور، فخلعوه عن العرش وسجنوه في مبنى بـ”كارتوكولتي نينورتا” ثم قتلوه بالسلاح (الموسوعة العربية).